فصل: (سورة الزمر: آية 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشريف الرضي:

ومن السورة التي يذكر فيها الزّمر:

.[سورة الزمر: آية 5]:

{خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)}.
قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ (5)} وهذه استعارة. والمعنى: يعلى هذا على هذا. وذلك مأخوذ من قولهم: كار العمامة على رأسه يكورها. إذا أرادها عليه. وقد قالوا: طعنه فكوّره. أي صرعه. ومنه قول أبى كبير الهذلي:
متكورين على المعاري بينهم ** ضرب كتعطاط المزاد الأنجل

ومنه الحديث المأثور: «نعوذ باللّه من الحور بعد الكور» أي من الإدبار بعد الإقبال. وقيل من القلة بعد الكثرة. لأنهم يسمّون القطيع الكثير من البقر وغيرها كورا.
ومنه قول أبى ذؤيب في صفة الثور:
ولا شبوب من الثيران أفرده ** عن كوره كثرة الإغراء والطّرد

أي عن سربه الكثير.
فيجوز أن يكون معنى {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ} على قول من يقول: طعنه فكوّره، يريد: فصرعه. أي يلقى الليل على النهار، ويلقى النهار على الليل.
ويكون المعنى على قول من يذهب إلى أن الكور اسم للكثرة، أي يكثر أجزاء الليل على أجزاء النهار، حتى يخفى ضوء النهار وتغلب ظلمة الليل. ويكوّر النهار على الليل. أي يكثر أجزاء النهار، حتى تظهر وتنتشر وتتلاشى فيها أجزاء الليل وتضمحل.

.[سورة الزمر: آية 42]:

{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)}.
وقوله سبحانه: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى (42)} وفى هذا الكلام استعارة خفية. وذلك أنّ قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} أي يقبضها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} منسوق تعبير. فظاهر الخطاب يقتضى أنه سبحانه يتوفّى الأنفس التي لم تمت في منامها أيضا. ونحن نجد أمارة بقاء نفس النائم في جسده بأشياء كثيرة. منها ظهور التنفس والحركة وحذف لسانه بالكلمة بعد الكلمة، وغير ذلك مما يجرى مجراه. فيكون معنى توفّى النفس النائمة هاهنا اقتطاعها عن الأفعال التمييزية، والحركات الإرادية، كالعزوم والقصود وترتيب القيام والقعود، إلى غير ذلك مما في معناه.
وقال بعضهم: الفرق بين قبض النوم وقبض الموت أن قبض النوم يضاد اليقظة.
وقبض الموت يضاد الحياة. وقبض النوم تكون الروح معه في البدن، وقبض الموت تخرج الروح معه من البدن.

.[سورة الزمر: آية 56]:

{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)}.
وقوله سبحانه: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)} وهذه استعارة. وقد اختلف في المراد بالجنب هاهنا. فقال قوم: معناه في ذات اللّه.
وقال قوم: معناه في طاعة اللّه، وفى أمر اللّه. لأنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم: هذا الأمر مغال في جنب ذلك الأمر أي في جهته. لأنه إذا عبّر عنه بهذه العبارة دل على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته.
وقال بعضهم: معنى في جنب اللّه. أي في سبيل اللّه، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته، بالأوصل إلى طاعاته.
ولما كان الأمر كلّه يتشعب إلى طريقين: إحداهما هدى ورشاد، والأخرى غىّ وضلال، وكلّ واحد منهما مجانب لصاحبه، أو هو في جانب، والآخر في جانب، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد، حسنت العبارة هاهنا عن سبيل اللّه بجنب اللّه، على النحو الذي ذكرناه.

.[سورة الزمر: آية 63]:

{لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)}.
وقوله تعالى: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (63)} وهذه استعارة. والمقاليد:
المفاتيح. قال أبو عبيدة: واحدها مقليد، وواحد الأقاليد إقليد. وهما بمعنى واحد. وقال غيره: واحدها قلد على غير قياس.
وقال أبو عمرو بن العلاء: وجهه في العربية أن يكون الواحد على لفظ مقلد ثم تجمع مقالد. فمن شاء أن يشبع كسرة اللام قال مقاليد. كما قالوا: درهم ودراهيم.
قال: وسمعت أبا المنذر يقول: واحد المفاتيح مفتاح. وواحد المفاتح مفتح. والمعنيان جميعا واحد.
والمراد بمقاليد السموات والأرض هاهنا- واللّه أعلم- أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتهما، من إدرار الأمطار، وإيراق الأشجار، وسائر وجوه المنافع، وعوائد المصالح.
وقد وصف سبحانه السماء في عدة مواضع بأنّ لها خزائن وأبوابا، فحسن على مقتضى الكلام أن توصف بأن لها مقاليد وأغلاقا.
قال سبحانه: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ} وقال تعالى: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ} وقال عزّ من قائل: {وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}.
وقالوا: خزائن السموات الأمطار، وخزائن الأرض النبات. وقد يجوز أن يكون معنى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي طاعة السموات والأرض ومن فيهن كما يقال: ألقى فلان إلى فلان مقاليده. أي أطاعه، وفوّض إليه أمره.
وعلى ذلك قول الأعشى:
أجدك ودعت الصبا والولائدا ** وأصبحت بعد الجور فيهن قاصدا

فتى لو ينادى الشّمس ألقت قناعها ** أو القمر السّارى لألقى المقالدا

أي لسلم العلوّ إليه، واعترف له به.
وقال بعض العلماء: ليس قول الشاعر هاهنا: ينادى الشمس، من النداء الذي هو رفع الصوت، وإنما هو من المجالسة. تقول: ناديت فلانا. إذا جالسته في النادي. فكأنه قال: لو يجالس الشمس لألقت قناعها شغفا به، وتبرجا له. وهذا من غريب القول.

.[سورة الزمر: آية 67]:

{وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}.
وقوله سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (67)} وهاتان استعارتان. ومعنى قبضته هاهنا أي ملك له وخالص، قد ارتفعت عنه أيدى المالكين من بريته، والمتصرفين فيه من خليقته. وقد ورث تعالى عباده ما كان ملكهم في دار الدنيا من ذلك، فلم يبق ملك إلا انتقل، ولا مالك إلا بطل.
وقيل أيضا: معنى ذلك أن الأرض في مقدوره، كالذى يقبض عليه القابض، فتستولى عليه كفه، ويجوزه ملكه، ولا يشاركه فيه غيره.
ومعنى قوله تعالى: {وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي مجموعات في ملكه، ومضمومات بقدرته. واليمين هاهنا بمعنى الملك. يقول القائل: هذا ملك يمينى. وليس يريد اليمين التي هي الجارحة. وقد يعبرون عن القوة أيضا باليمين. فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله سبحانه: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} أي يجمع أقطارها ويطوى انتشارها بقوته، كما قال سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ}. وقيل في اليمين هاهنا وجه آخر. وهو أن تكون بمعنى القسم. لأنه سبحانه لما قال في الأنبياء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد كأنه قسم أقسم به ليفعلنّ ذلك. فأخبر سبحانه في هذا الموضع من السورة الأخرى أن السموات مطويات بيمينه، أي بذلك الوعد الذي ألزمه نفسه سبحانه. وجرى مجرى القسم الذي لابد أن يقع الوفاء به، والخروج منه.
والاعتماد على القولين المتقدمين أولى. اهـ.

.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الزمر:
الزمر الجماعات المختلفة من الناس، ولم ترد هذه الكلمة إلا في السورة التي سميت بها. والواقع أن السورة تضمنت أحوالا شتى لأفواج متباينة من الخلق، قوبلت كل زمرة بأخرى حتى تكونت من هذا السرد بضع عشرة مقابلة شملت السورة كلها، وتدور حول التوحيد وخصائصه وآثاره. فالشرك رذيلة شاعت بين الأولين والآخرين، وشانت سلوكهم. ألا تعجب لرجل عاقل يسجد لحجر ويتهيبه؟ ألا تعجب لطيار يظن نجاته مربوطة بحدوة حصان فيها سعده أو نحسه؟ إن المآخذ على مسالك البشر كثيرة، وأولها الجهل السيئ بالله! وكان المفروض أن نحسن الظن بخالقنا. وأن ننسب إليه الكمال! المطلق، لكننا جعلنا لله شركاء مغموصين، وصنعنا لها تماثيل ترمز إليها، وقال التائهون الذين فعلوا ذلك {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}. إن هذه الأصنام أصفار جسدها الوهم، ومكانتها أن ترمى في زاوية القمامات. إن شأن الألوهية أعلى من هذا الإسفاف ولو صنع الله شيئا يكون وسيطا بينه وبين خلقه، لاختار بديلا أرقى {لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار}. ليس بين البشر وربهم وسيط، إن اتصالهم به مباشر، إن كل امرئ يستطيع مناجاة ربه في أي وقت وفى أي مكان. ولو حدث- فرضا لمستحيل- أن يتخذ الله ولدا، لاختار من خلقه بشرا كريما أو ملكا كريما، وسيكون هذا المختار مخلوقا لا خالقا ومربوبا لا ربا، ومحكوما عليه لاحاكما على أحد. إن للألوهية أوجها العالى، وللمخلوقين كلهم مكان العبودية الضارعة الخاشعة. ولكن المشركين- وثنيين أو كتابيين- يتجاوزون هذه الحقيقة، ولا يعرفون الفارق بين المخلوق والخالق، ولا يصح التوحيد إلا بتصور إله واحد، ماعداه عبد له..!
والقرآن الكريم سيد الكتب التي حررت هذه الحقيقة، وأطالت النفس في توكيدها.. وفى سورة الزمر تنويه متكرر بهذا المعنى:
1- {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين}.
2- {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم}.
3- {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون}.
4- {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه}.
5- {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب}.
6- {بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين}.
وفى صدر سورة الزمر حديث طويل عن الله الخالق، وعن مظاهر خلقه في السموات والأرض، والإنسان والحيوان. وهذا الحديث تمهيد لما بعده من مقابلات بين أصناف الناس توضح سائرهم ووجهاتهم. وأولى هذه المقابلات قوله تعالى: {إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى}. والواقع أن البشر مغمورون بنعمة الله، فهم يعيشون على أرضه، ويتنفسون في هوائه ويأكلون من خيره، ثم ينسون كل هذه الأفضال ويتصرفون معه كأنه لم يسد إليهم جميلا!! وقد تمر بهم محنة فيجأرون طالبين النجدة، فإذا أنقذهم من ورطتهم سرعان ما ينسون الإنقاذ الذي ظفروا به {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور}. إن شكران النعمة دليل بصر سليم وطبيعة مستقيمة، وقد ذكر الله نوحا فقال {إنه كان عبدا شكورا} وذكر إبراهيم بأنه كان {شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم}. وقال نبينا يتحدث عن سر اجتهاده في العبادة «أفلا أكون عبدا شكورا؟» والمطلوب من الناس أن يعرفوا هذه الحقائق، فلا يستخدموا أنعم الله في معصيته والمقابلة الثانية في قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}. وظاهر أن الطرف الآخر في المقابلة محذوف تقديره هل يستوى قائم الليل ونائمه؟ أو هل يستوى من يشغل ليله بالعبادة، ومن يشغله باللهو والبحث عن اللذة الحرام؟ وسنرى في المقابلات القادمة أنه كثيرا ما يحذف أحد الطرفين مراعاة لبلاغة الأداء وترغيبا في قيام الليل. قال الرسول الكريم «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ومقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد». وفى صدق النية على القيام، روى أبو الدرداء عن النبى صلى الله عليه وسلم «من أتى فراشه وهو ينوى أن يقوم يصلى من الليل فغلبته عيناه حتى أصبح كتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربه!». وقيام الليل من النوافل المؤكدة. وأحسب أن ما ورد في السورة هنا قد يكون المعنى به السهر في أداء الفرائض المكتوبة ورفض النوم عنها.. وربما كان- إلى جانب رعاية الفرائض- أن يختار المرء بعض ليالي يسهرهن في الدراسة والدعاء والترتيل، ويعطى البدن حقه في ليال أخرى. وقدرات الناس تختلف جدا في هذا المجال. وأعرف من يسهر الليل، ثم يكتفى برقاد ساعة ويصحو ناشطا. وأعرف من لا يملك وعيه إلا بعد نوم مستغرق! ولله في خلقه شئون. والمقابلة الثالثة بين صنفين متباعدين. الأول الأتقياء المحسنون الذين أخلصوا دينهم ومشوا في آثار نبيهم وتأسوا به وهو يقول: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} فسجنوا هواهم وأسلموا لله وجوههم.. وبين صنف عبد الحياة الدنيا وعاش يلهث وراء شهواتها ناسيا لقاء ربه ومكرسا عمره للحاضر المنقضى.. وفى هؤلاء يقول الله: {قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} إن ألوفا من الناس يكدحون بجبروت ليرتفعوا مع أسرهم في هذه الحياة، ويوفروا ما استطاعوا من مال وجاه، فإذا جاء يوم البعث حشروا عرايا صعاليك، لم يغن عنهم ما كسبوا شيئا.
وقد لُخصت هذه المقابلة في قوله تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه}. والمقابلة الرابعة ذكرت أحد الطرفين وطوت الآخر لأنه مفهوم من السياق. قال تعالى: {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار}؟ والمعنى: أفمن أساء فاستحق الهوان كمن اتقى فاستحق التكريم، إن من حقت عليهم كلمة ربك لا ينقذه أحد!! وعرف الطرف الثانى في المقابلة من قوله تعالى مباشرة {لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد}. والمقابلة الخامسة تشبه سابقتها في حذف أحد طرفيها. قال تعالى: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}. وتقدير الكلام أفمن انشرح بالحق صدرا كمن ضاق صدره بالحق وكره الدخول فيه والعمل به؟ والصدر إذا انشرح أقبل المرء بشغف على العمل، كما قال البوصيرى: وإذا حلت الهداية روحا نشطت للعبادة الأعضاء! أما المنحرفون عن الله فهم يستثقلون الصلاة ويستكثرون الزكاة ويفرون من الجهاد. وقد شرحت الآية التالية هذه المقابلة الخامسة {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}. فالقرآن الكريم مصدر الذكر الحكيم والهدى المستقيم والعصمة من الباطل والارتباط بالحق. والمقابلة السادسة تراها في الآية الكريمة {أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون}. والمعنى أفمن صان وجهه عن عذاب القيامة بالإيمان والإحسان كمن نصب وجهه لتلقى هذا العذاب بكفره وظلمه؟ وطبيعة البشر أن يباعدوا السوء عن وجوههم، ولكن العذاب المحيط الذي يتعرض الظلمة له يفجؤهم بما لا يستطيعون رده. وقد زادت الآية التالية بأن العذاب قد يعجل لهم في هذه الدار {فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون}.